إحساس غريب اجتاحني و أنا ألملم أشيائي من متاع و بعض
التخيلات لقافلة تخرج من مكان ما محملة بالبخور والعطور تعبر الفيافي لتعبر البحر الأحمر
,يحرسها فرسان أقوياء من أشرس مقاتلي السلطان علي دينار الذي أعتاد أن يرسل هذه القافلة
كل عام لكسوة الكعبة الشريفة ,هكذا كنت أحزم حقيبتي و أنا أردد بلا وعي كلمات لأحد
أصدقائي كان يباغتني بها كلما سألته عن أفضل زمن تمنى أن يعيشه , فكان يقول لي :
يوم كنا نبعث للكعبة كسوتها .
الرغبة والرهبة وشوق دفين بدأ ينتفض من رماده و وخز
حزن أخذ يلسعني كلما إقتربتُ من الطائرة التي ستقلني للمرة الأولى صوب الغرب وإلى مدينة
الفاشر بالتحديد , إذاً هي المرة الأولى التي أركب فيها طائرة والمرة الأولى أسافر
فيها صوب إحدى شرايين هذا الوطن المقطوع في الأطراف , غريب أنا في هذا الوطن ,هذا الإحساس
تملكني و أنا أجلس داخل الطائرة تحيطني وجوه لم آلفها من قبل داخل أسوار الوطن بهذه
العددية الكبيرة ,من بلاد البنغال وشيلي و النيجر ونيجيريا وباكستان وغيرهم , عبارة
عن أفراد لبعثة الأمم المتحدة و الإتحاد الأفريقي في دار فور.
الغُربة تحاصرني ولم أجد ما يحمل معي ألمها غير كتاب
(الجسد حقيبة سفر) لغادة السمان إذاً ها أنا أحمل جسدي وبداخله كل أمتعتي المعنوية
أبحث عن دفء لوطن مفقود داخل جسد هذه الطائرة المكتظة بالوجوه الباردة من بريطانيين
و أتراك ومصريين , لست أدري لماذا قفزت إلى ذاكرتي أيام الإستعمار ومحمد علي باشا و
الدفتردار ورأس غوردون ومحمد أحمد المهدي يحاصر الخرطوم , وخيط طويل لتاريخ عتيق يحوم
حول راسي إنقطع باصطدام عجلات الطائرة بمدرج المطار لحظة الهبوط معلنة وصولنا لفاشر
السلطان علي دينار لنبدأ بعدها رحلة التوغل داخل المدينة صوب السكنات .
الفاشر مدينة تباغتك بالهدوء للوهلة ولافتة في الطريق
إلى قلب المدينة مكتوب عليها (جتاً جيتو ) لتجد بعدها نفسك وسط السوق المذدحم بالخضار
ومخلفات الحرب البشرية من أشخاص رسم ملامحهم الذعر والتشرد ,وفي الطريق تناثرت الوجوه الشاحبة ,الإنسان ليس كما كان في السابق
حيث أصبح منزوع منه دسم الطمأنينة فأصبح كأي طعام معلب منزوع الدسم .
أعترف يومها بأنني خرجت من دائرة الحزن الصامت بأن وجدت
أعيني يفيض مدها المالح ليغرق جفنيها لتحتجب الرؤية ثوانيٍ معدودة لمنظر النساء القادمات
من قرى إلتهمتها الحرب وشتت و هن يقمن بالعمل
في بناء المنازل يحملن الطين و الحجارة وينقلن الماء ,عجباً لهذا ..الرجال يحملون السلاح
للدماء وحواء هنا تحمل الطين للبناء يا لها من متناقضات في زمن الحرب والفجيعة.
نحن نتصارع منذ أن وُجد وطن يسمى السودان ,برغم أننا
كلنا نرجع لآدم وحواء إلا أن الصراع القبلي موجد فينا منذ أمد بعيد ,حملنا السلاح نتقاتل
ما إنتهى القتل ولكننا كدنا ننتهي ,جربنا الحرب لعشرات السنين ولم نجني سوى الدمار
والقتل والتشرد والتخلف ,فلماذا لا نجرب السلام والطمأنينة ولو لعام واحد وبعدها نقارن
مابين الحرب والسلام.
ونفس السؤال يراودني ...
إلى متى نظل هكذا يا وطني ؟؟؟
0 التعليقات:
إرسال تعليق