الشوقُ هو شيئ مُوجع و مُرهق، كأن تنام على وسادَتك بينما يكون هُنالِكَ شيئ ناتئ تحتها .. الشوق أرهق مافيه أنه مهما حاولت أن تهرب منه و تُغَلِق الأبواب و النوافذ فإنه مثل الغُبار الناعم يتسرب إليك في عُزلَتك.
الثلاثاء، 25 فبراير 2014
بيني و بين نفسي
ها أنت ذا قد عدت إلى غيك القديم، تجلس في جوف الليل كإمرأة إفريقية عجوز تحمل نول داخل كوخ قديم نائيٍ وناتئ على شاطئ نهر الكونغو، تنسج لأحفادها سترات صوف تستر أجسادهم من هوام الغابة القريبة، وأنت نولك قلمك وما الصوف إلا حبرك الدرويش الصوفي الذي يدور و يدور. ها أنت ذا تعود وتنبعث من رمادك ﻷنك فيما مضى كنت كموجة تُقبل رمل الشاطئ مرة واحدة فتنطفئ على حدود البحر و اليابسة، تعود إلى عِشقك القديم، عُشِك القديم رغم علمك بالنوارس التي نادراً ما تسكن إلى أعشاشها تحب التحلق مع الريح فوق البحار ولا تستريح.
أخبرني وأنت عائد إلى طريق الكتابة هل تحسست آثار خطواتك ومخبأ يراعك القديم وأوراقك العتيقة، هل إنحنيت لتشتم عطر زهرة تنمو في الركن البعيد عن الضوء؟، هل قبلت جبين ذلك الطفل الذي يبيع العلكة للعشاق في شارع النيل ليزرع الوُد في قلوبهم مساءً، و يزرع الطريق صباحاً بالأمل وهو يسير إلى مدرسته حافي القدمين ترتسم على وجنتيه إبتسامة رضا؟، إن لم تفعل ذلك فلا تعود إلى الكتابة أبداً لأن القلم الذي لا يكون مثل سماعة الطبيب يحس بنبض قلوب الآخرين ويتحسس أوجاعهم و أفراحهم وكل إحساس ينتابهم، أولى أن نلقي به في خزانة حديدية مغلقة بقفل مفقود المفتاح، خزانة لا منفذ فيها سوى ثقب صغير لا يتسع إلا لسقوط الأقلام الميتة عبره.
يا "أنا" لقد أرهقتني بأسئلتك، ولكن دعني أخبرك عن أي الأشياء سوف أكتب، سوف أكتب عن العشاق الذين تلدغهم عقارب الأشواق كل مساء ,وعن تلك الطفلة بائعة أطواق ورود الفل في مساءات الخرطوم هذه المدينة المكتظة بالعشاق المُزيفين، سوف أكتب عن كل ذلك في ذات اللحظة التي أكتب فيها عن أحلام الذين إفترشوا دمائهم عشقاً لوطنهم وحلم الحرية وحمائم السلام، كل ذلك في لحظة كتابة واحدة لا تفصل بينهم أي علامة ترقيم تتوسطهم ببلاهة، سوف أكتب عن الأسواق التي تكتظ بالباعة ولا أحد يشترى ﻷن الجنيهات كلها محبوسة في جيب ذلك الضخم الجالس على كرسيه لا يفعل شيء سوى لعق الملح العالق على جبين الذين يكدحون اليوم بأكمله ليعودوا إلى طفلاتهم الصغيرات بأقراص خبز و قليل من حليب.
سوف أعود ولن أسلك سوى طريقي القديم الذي أحن إليه فيحنو علي ويتمدد أكثر فأكثر إلى ما لا نهاية، و أنا بى رغبة أن أمضي عليه وإن أفضى بي إلى طُرقات أخرى.
ياهذا سوف أكتب و إن تحول قلمي إلى عنكبوت فإنه سيظل قادراً على نسج الخيوط.... هذا قدرنا قلمي و أنا.
حجة خديجة
عن أمي حجة خديجة بائعة الشاي في "أتنية" أروي حديث حميم تحدثني به كلما أتيت إليها ورأسي "يطنطن" من تراكمات الذاكرة، تسألني:-أسوي ليك شاي؟أجاوبها بنعم حنينة كرائحة النعناع التي تفوح من كوب الشاي الذي أرتشفه حتى آخر قطرة تسقط داخلى فمي لتسترح داخلي بعد سفر طويل من مزارع الشاي في كينيا مرورا بماكينات التعبئة وعربات الشحن والطرقات المتعرجة الوعرة هنالك على الحدود حيث عساكر الشرطة المرتشين الذي يسمحون لمرور شحنة الشاي بعد أن تمتلئ جيوبهم بعلب الدخان، يعبر الشاي كل ذلك ليتحول بعدها إلى كوب شاي بالنعناع تحضرة حجة خديجة لتستريح بعده آخر قطرة داخل جوفي و أستريح بعدها أنا عندما يتعرق حبيني وتلفحه نسمة هواء باردة، أحس بطيوف نعاس لذيذ في هذا المكان "أتنية" حيث قلب العاصمة الخرطوم، قلبها القديم الذي مازال يتسع لإستيعاب الجميع مثقفين، سياسين، فاشلين، باعة جائلين و بعض الذين يبحثون عن فتات عشق ينعش أرواحهم المصابة بالجفاف، تستوعبهم جميعا حتى الغرباء أصحاب العيون الصغيرة الذين يأتون إلى هذا المكان لشراء المنحوتات الفلكلورية و المشغولات اليدوية، أقهقه في داخلي عليهم لأنهم بالأمس كأنوا يأتون إلى بلادنا عمال إنشاءات ما أن ينتهون من عملهم حتى تختفي الكلاب من المنطقة المحيطة بمكان عملهم وإلى الأبد لأنهم يدخلونها في سلسلتهم الغذائية مع بعض البهار والخضروات، أضحك في داخلي ساخرا ﻷنهم أصبحوا يجيئون وهم يمتطون فارهات سيارات مراسم القصر الجمهوري فهذه وحدها صورة فلكلورية منحوتة بسخرية ساخطة.هذا مكان حميم حتى الحمام يأتي إليه ويتطاير حول ذلك المجنون الذي يقدم له جزء من طعامه الذي يحملة داخل جواله البلاستيكي المهترئ.أطوف .. أطوف ومن ثم أعود لحجة خديجة وهي تقلب نار الفحم وتنفض عنها الرماد لتعد كوب قهوة لشخص جاء متبرما و أخذ يمتص دخان سجارته بشغف شديد، أنظر إلى حجة خديجة مبتسما وأحدثها كفافا عن بعض الأشياء الصغيرة من شظف عيش وعبس سياسة فتحدثني عن إرتفاع أسعار الشاي وزيادة تعريفة المواصلات وعن ذلك "الحكيم" الذي يأتي ليحتال بعض الجنيهات من زبائنها مدعيا أنه شاعر و مثقف و مفكر وربما عالم آثار ولو أنك صبرت قليلا فإنك سوف تعلم منه أنه من إكتشف كوكب المريخ ثم يأخذ جنيهاتك وينصرف لتجده بعد نصف ساعة عند طرف الطريق يترنح بعد أن تحولت جنيهاتك لمشروب روحي بلدي، هههه أضحك لحديث حجة خديجة وقبل أن إنصرف تقدم لي كوب شاي وتقول:-أشرب الشاي دا أنا عازماك ليهوانصرف بعدها أحمل في روحي ذرات حميمة من هذا المكان .. ذرات تلتصق بي و تشدني للمجيئ مرات اخرى لتدور ذات الصور و الأحاديث الحميمة.."أتنية" مكان له سحر يشدك إليه، وحجة خديجة لها روح خفيفة تدخلك بسهولة ولا تخرج أبدا..
29-1-2014
11:40pm
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)